Sunday 26 January 2014

مستعبدات

 للعبودية أشكال أخرى، غير ذلك الشكل التقليدي الجسدي الذي نعرفه جميعا، يمكنك أن تكون عبدا دون أن تعرف، هذا ما يحصل للعديد منا 
يوجد العبودية الدينية، تلك العبودية التي تسببت بموت هيباتيا، لا أظن أنهم قتلوها لأنهم كرهوها وأرادوا قتلها، هم لم يعرفوها حتى لكي يكرهوها ويرغبوا بقتلها، هم سمعوا عن كره اللأب كيرلس تكلم عنها بتلك الطريقة الشائنة في قدّاس ذلك اليوم، وظنوا أن الله يكرهها وأنه يريد موتها، فقتلوها بتلك الطريقة الشنيعة، قتلوها لأن الله أراد منهم ذلك ولأن اللأب كيرلس عبّر عن أراء الله في قداس ذلك الأحد المشؤوم
هناك منا من هو عبد لأراء غيره، ليس لأنه أراد أن يكون عبدا، بل لأنه نشأ في بيئة استعبادية، تستعبد الفكر والعقل قبل أن يولدا، ليكبر ذلك الطفل ليستعبد نفسه، لا إدراك له أنه مستعبد وهذا ما يجعل استعباده أسوأ

نحن جميعنا عبيد لشيء ما، عبيد لرغبات أو أفكار أو أراء أو أيدلوجيات، بعضنا يدرك أنه عبد تلك الأشياء وهذا ما يجعل استعباده شيئا لا يلاحظ، بل أحيانا يتحول هذا العبد إلى شخص حر من رغباته، أما في الناحية الأخرى فتجد أولئك المتطرفون لشيء ما، أولئك المدافعون عن شيء لا يفهمونه ولا يستطيعون التكلم عنه، ولكنه يمثل كل ما يملكون، أولئك الذين يتجاوزون المنطق في الحديث، أولئك الذين لا يملكون في الدفاع عن أفكارهم سوى أقاويل

المرأة الليبية هي أحد تلك الكائنات المستعبدة لا شعوريا، كنت في لحظة ما سأعمم هذا الاستعباد ليطال كل النساء العربيات، ولكن تثبت المرأة العربية وجودها في العديد من الدول الأخرى عدا ليبيا

المرأة قادرة على تغيير مجتمع أكثر من أي رجل أو سلطة، أذكر أنني قرأت عن  النساء في تونس اللواتي خرجن في تظاهرة للترحيب بقرار بورقيبة بإعطاء المرأة حقوقها، وها هن مجددا يخرجن قبل أيام للاحتفال بدسترة المساواة في دستور الدولة التونسية، لم يكن بإمكاني وأنا أقرأ تلك المقالات التي تحدثت عن المرأة التونسية سوى التفكير في أن المرأة الليبية لو جائتها نفس الحقوق فستخرج للتنديد بهذه القرارات وترفضها رفضا تاما، لن يكون للرجل علاقة بالأمر بقدر ما أن عبودية هؤلاء النساء تجعلهن ينظرن لحقوقهن كأنها شيء محرم وممنوع

يكاد يبلغ تعداد الأنثى الليبية الأربع ملايين، أكثر من تعداد الذكر الليبي، ولكن وجودها أقل منه بكثير، ربما لأن وجودها منزلي فحسب، بين جدران المنزل والأب والأخ والزوج وثم الابن، وبين كل هذه الجدران لا تكون للمرأة هوية حقيقية، ولا رغبات حقيقية، بعض الأحيان سيتمرد عقلها، سيريد لها عقلها أن توجد فعلا كإنسان حقيقي غير مستعبد، لكن جلسة حديث واحدة مع مستعبدات اخريات ، في ستغير لها رأيها، في الواقع هذه الجلسات التي ستتكرر باستمرار في المدارس والمناسبات الاجتماعية ستجعلها كائن لا يبحث عن نجاحه سوى بالزواج من رجل، أما النجاح الأكبر فهو أن تتزوج رجلا يبيض الذهب والمجوهرات

أحاديث الليبيين نساءا ورجالا لا تتجاوز القرمة "النميمة" وبعض التحليلات السياسية، في الواقع هذه التحليلات السياسية التي عادة ما تكون تافهة وخالية من أي صحة هي أمر جديد للحديث عنه، ذلك أنه قبل ثلاث سنوات فقط لم نملك سوى القرمة كأحاديث يومية

كتبت ستاتوس على الفيس بوك أنها في علاقة، قليل من الجرأة جعلها تفعل ذلك، ذلك أنها جعلت هذا الستاتوس خاصا بالأصدقاء مع التأكد من أصدقائها جميعهم أشخاص لن يمانعوا هكذا ستاتوس، بالأخرى أصدقاء افتراضيون لا يعرفون أهلها أو إخوتها، في الواقع جرأتها هذه غير موجودة، غير أن خوفها وتأكدها من ما سيظنه الأخرون بها بل وربما ما سمعتها أمام عريس الغفلة التي ستثير إعجاب أمه في أحد الأعراس يجعل من هذه الخطوة أكثر الخطوات الجريئة والمتمردة

الوجود الجسدي يختلف عن الهوية، المرأة الليبية موجودة جسديا ولكنها دون هوية، دون شخصية ودون أراء، هي مجرد امتداد لأيدلوجيات أخرى استعبدتها منذ طفولتها، ورغبات أخرى تستعبدها في كبرها

الإنسان لا وجود لأرائه معظم الوقت، عقلية القطيع هي التي تنتصر دائما، استعباد المرأة الليبية لنفسها هو عقلية القطيع، في العديد من الفرص المختلفة كان يمكن أن تتواجد هوية للمرأة الليبية ولكن هذه الهوية عادة ما تقف في مواجهة عقلية القطيع، التي تنتصر دائما، تنتصر لأن الأراء المختلفة تخاف أن تسير بمفردها بعيدا عن القطيع الذي يحميها

قبل فترة قصيرة نسبيا، قرأت مقالة عن امرأة مغربية تحصلت على جائزة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، وهي أعلى جائزة يمكن أن يحصل عليها شخص يناضل لأجل حقوق الإنسان، في البداية ظننت أنها تناضل لأجل حقوق المرأة أكثر منه لأجل حقوق الإنسان ذلك أنها نفسها امرأة، ولكن مع استمراري في قراءة المقالة أدركت أنها فعليا تدافع عن حقوق الإنسان وليس المرأة، بل هي تدافع عن حقوق المرأة كونها جزءا لا يتجزأ من حقوق الإنسان، أذكر أني حينها شعرت بالخزي لأني يوما فكرت في الدافع عن حقوق المرأة، بل سألت نفسي مرارا وتكرارا كيف سأدافع عن شيء لا وجود له ؟! ولم أجد أي إجابة مرضية

كل أفكاري السابقة طرحت عليّ تساؤلا واحدا، ماذا عن الرجل ؟! في الواقع للرجل هوية، هوية تفرض تفسها بقوة في الشوارع والبيوت وأماكن العمل، هوية تفرض نفسها في المجال الفني الغير موجود في ليبيا، يوجد كتاب ليبيين شباب، بأحلام لنشر كتب و بمقالات تنشر يوميا، لا وجود لهكذا نسوة في ليبيا، وإن وجدن فهن قلّة يمكن عدّهن على أصابع اليد الواحدة 


يزعجني للغاية أن لا هوية لنا، ربما هذا يفسر صداقاتي القليلة مع الليبيات، بل و ربما صمتي الدائم في حضورهن، خصوصا تلك  الأحاديث العشوائية القصيرة التي عادة ما نجدها في طابور انتظار في مشفى أو في نادي رياضي... إلخ، في الواقع أنا لا أكرههن بل أشعر بالشفقة على نفسي لأنني لا أشاركهن اهتماماتهن، هذا يجعلني عادة أجلس في الزاوية أدّعي أني لا أسمعهن يتحدثن عنّي أو ينظرن إليّ بنظرتهن تلك المخيفة، ولكن هذا أفضل من الشعور بالملل وأنا أستمع لهن كل تتحدث عن زوجها أو حبيبها أو خطيبها كأنه كنز، تفتخر بتلك الهدية الصغيرة التي لم يحضرها لها على الإطلاق، أحاديثهن بين نميمة نساء أخريات وبين هدايا وفضائل رجالهن عليهن

بالأمس أخبرتني أمي أن صديقاتها أو بالأحرى زميلاتها سألنها عنّي، قالوا لها هل ابنتك غبية لتتعلم الألمانية أم هي فلتة "متفوقة" في اللغة الإنجليزية ؟! اجبت في حدّة أجل، أخبريهن أنني فلتة في الإنجليزي

غضبت للحظة ثم شعرت بالشفقة عليهن، في الواقع لولا شفقتي عليهن لما صمدت في هذا المجتمع البائس

Friday 3 January 2014

بقايا حياة

استيقظت مبكرا كعادتها كل صباح، ورغم أنها لم تعمل يوما إلا أن الاستيقاظ باكرا كان نشاطا مارسته طول حياتها تقريبا بحيث أنها لم تعرف وقتا غيره للاستيقاظ، أخذت كوب الماء من جانب سريرها وشربته جرعة واحدة، ثم وسريعا طقطقت أصابعها في حركة اعتادتها تريحها من ألم مفاصل يدها قليلا وفتحت اللابتوب، دخلت سريعا لجميع مواقع التواصل الإجتماعي وكتبت "صباح الخير جميعا، وأتمنى لكن يوما جميلا على أنغام فيروز" ثم ذهبت للحمام لتغتسل وتنزل لتفطر

تستغرق طويلا في أكل فطورها كجميع زملائها، صوت الملاعق والصحون و الكؤوس وأصواتهم التي تتحدث عن ذكرياتهم وعن ما سيفعلونه بعد الإفطار مشهد مككر بالنسبة لها، هي لا تشارك في المشهد بل تراقبه من بعيد بحرص شخص لا يريد المشاركة في الحديث المكرر، تراقب الحديث وتسهو عنه في أفكارها في محاولة لتخيل عدد اللايكات والتعليقات التي تنتظرها

إنها الثانية عشرة ظهرا تفكر في سرعة مرور الوقت، في كل صباح تصبح حركتها أبطأ، تذهب سريعا لغرفتها، ليس سريعا فعلا بل أقصى سرعة يمكن لجسدها أن يعينها عليها وتكتب مجددا بعد التعليق على ما كتبه كل أصدقائها الافتراضيين "زحمة خانقة ومزعجة"

تمسك كتابا كانت الممرضة قد أحضرته لها بعد إصرارها عليها، وتقرر إمضاء فترة الظهيرة تقرؤه، هذا كتابها الخامس الذي تقرؤه مع نادي القراءة المشاركة فيه، في الواقع هي لم تكمل سوى كتابين فبصرها لا يعينها على إكماله كما أن نظاراتها أصبحت قديمة وغير صالحة سوى لزيادة حدّة صداعها، ولكنها تدّعي أنها أكملتها، وليقتنع الأخرون بذلك تقوم بوضع اقتباس عادة ما تختاره من الأجزاء الأولى من الكتاب الذي تقرؤه، أصدقاؤها الافتراضيون لم يلاحظوا ذلك وهذا يسعدها كثيرا

سرعان ما أتت الرابعة، تنزل ببطء على الدرج في محاولة منها اتجنب الوقوع مجددا، فهي لا زالت تذكر وقوعها قبل سنتين، في الواقع لا زالت تشعر بألامها، رائحة الغذاء لم تعد تغريها كما السابق رغم أنها جائعة، فالأكل نفسه يتكرر منذ خمس سنوات بنفس الرائحة والشكل والطعم، ولكنها تأكل بأي حال وإلا فإن دواءها سيسبب لها ألاما حادة إن أخذته ومعدتها خاوية، تقرر هذه المرة المشاركة في الحديث بدل مراقبته، ولكنها لا تجد كلمات مناسبة لتقولها فتبقى صامتة وتتمنى لو أن الكلام كان مثل الطباعة، لكانت قالت الكثير

تنتظر الثامنة بحماس، فبعد الغذاء الذي استغرق منها وقتا طويلا لعبت "الكارطة" مع زميلتها في محاولة منها لتمضية الوقت، تراقب عقارب الساعة تتحرك ببطء. هاقد أتت الثامنة، تركب الدرج ببطء هذه المرة لأن أضواء الدرج خافتة، لقد أخبرتهم أكثر من مرة أن يصلحوا الأضواء لكنهم لم يهتموا بكلامها، تصل لغرفتها بمساندة من عكازها الذي يسندها ولكنه أيضا يزيد من ألام مفاصل يدها

تجلس على الكرسي، تفتح اللابتوب والكتاب أيضا وتبدأ بكتابة الجزء الذي تريد اقتباسه من هذا الكتاب الذي قررت عدم إكماله، و بعد هذا تجلس وتراقب وتكتب وتضحك في محاولة منها لمجاراة الحياة

منتصف الليل، انطفأت أضواء غرفتها منذ ساعتين ولكنها لم تهتم، ففي وسط هذه السعادة الذي تنتابها تجد صعوبة في الخلود للنوم فقط لأن أحدهم أطفأ الأضواء، ورغم أن هذا يزعجها إلا أنها لن تدع هذا الأمر يفسد عليها السعادة القليلة التي تنتابها في هذا الليل المظلم

ينتهي يوم هذه العجوز السبعينية في استغراقها خمس دقائق للوصول لسريرها في هذا الظلام، بل تزداد صعوبة الوصول للسرير عندما يقوم ذهنها بنسج سيناريوهات لتعثرها ووقوعها، إن ذهنها يزعجها أحيانا لأنه لا يكتفي بتخيل الوقعة بل يحرص على تذكيرها بلألام جميع وقعاتها

تصل العجوز للسرير منهكة، وتنهي يوما أخرا تشطبه من حياتها، لا تفكر في الغد لأنها تدرك أنه سيكون كاليوم تماما، لكنها تستعيد ذكريات اليوم المضحكة في حياتها الافتراضية وتنام


هذه العجوز في ممارستها الحياة الافتراضية وجدت حياتها، فهي عكس جميع العجزة حولها في دار الشفاء للعجزة التي وضعها فيه أبناؤها تمارس نوعا من الحياة، بل أنها تعيش شبابها، فهي لا تذكر من شبابها سوى المطبخ والأبناء والمنزل، ولا تذكر أنها ضحكت في شبابها الحقيقي كما تفعل في شبابها المزيف

فالحياة الافتراضية أفضل من اللاحياة