Friday 3 January 2014

بقايا حياة

استيقظت مبكرا كعادتها كل صباح، ورغم أنها لم تعمل يوما إلا أن الاستيقاظ باكرا كان نشاطا مارسته طول حياتها تقريبا بحيث أنها لم تعرف وقتا غيره للاستيقاظ، أخذت كوب الماء من جانب سريرها وشربته جرعة واحدة، ثم وسريعا طقطقت أصابعها في حركة اعتادتها تريحها من ألم مفاصل يدها قليلا وفتحت اللابتوب، دخلت سريعا لجميع مواقع التواصل الإجتماعي وكتبت "صباح الخير جميعا، وأتمنى لكن يوما جميلا على أنغام فيروز" ثم ذهبت للحمام لتغتسل وتنزل لتفطر

تستغرق طويلا في أكل فطورها كجميع زملائها، صوت الملاعق والصحون و الكؤوس وأصواتهم التي تتحدث عن ذكرياتهم وعن ما سيفعلونه بعد الإفطار مشهد مككر بالنسبة لها، هي لا تشارك في المشهد بل تراقبه من بعيد بحرص شخص لا يريد المشاركة في الحديث المكرر، تراقب الحديث وتسهو عنه في أفكارها في محاولة لتخيل عدد اللايكات والتعليقات التي تنتظرها

إنها الثانية عشرة ظهرا تفكر في سرعة مرور الوقت، في كل صباح تصبح حركتها أبطأ، تذهب سريعا لغرفتها، ليس سريعا فعلا بل أقصى سرعة يمكن لجسدها أن يعينها عليها وتكتب مجددا بعد التعليق على ما كتبه كل أصدقائها الافتراضيين "زحمة خانقة ومزعجة"

تمسك كتابا كانت الممرضة قد أحضرته لها بعد إصرارها عليها، وتقرر إمضاء فترة الظهيرة تقرؤه، هذا كتابها الخامس الذي تقرؤه مع نادي القراءة المشاركة فيه، في الواقع هي لم تكمل سوى كتابين فبصرها لا يعينها على إكماله كما أن نظاراتها أصبحت قديمة وغير صالحة سوى لزيادة حدّة صداعها، ولكنها تدّعي أنها أكملتها، وليقتنع الأخرون بذلك تقوم بوضع اقتباس عادة ما تختاره من الأجزاء الأولى من الكتاب الذي تقرؤه، أصدقاؤها الافتراضيون لم يلاحظوا ذلك وهذا يسعدها كثيرا

سرعان ما أتت الرابعة، تنزل ببطء على الدرج في محاولة منها اتجنب الوقوع مجددا، فهي لا زالت تذكر وقوعها قبل سنتين، في الواقع لا زالت تشعر بألامها، رائحة الغذاء لم تعد تغريها كما السابق رغم أنها جائعة، فالأكل نفسه يتكرر منذ خمس سنوات بنفس الرائحة والشكل والطعم، ولكنها تأكل بأي حال وإلا فإن دواءها سيسبب لها ألاما حادة إن أخذته ومعدتها خاوية، تقرر هذه المرة المشاركة في الحديث بدل مراقبته، ولكنها لا تجد كلمات مناسبة لتقولها فتبقى صامتة وتتمنى لو أن الكلام كان مثل الطباعة، لكانت قالت الكثير

تنتظر الثامنة بحماس، فبعد الغذاء الذي استغرق منها وقتا طويلا لعبت "الكارطة" مع زميلتها في محاولة منها لتمضية الوقت، تراقب عقارب الساعة تتحرك ببطء. هاقد أتت الثامنة، تركب الدرج ببطء هذه المرة لأن أضواء الدرج خافتة، لقد أخبرتهم أكثر من مرة أن يصلحوا الأضواء لكنهم لم يهتموا بكلامها، تصل لغرفتها بمساندة من عكازها الذي يسندها ولكنه أيضا يزيد من ألام مفاصل يدها

تجلس على الكرسي، تفتح اللابتوب والكتاب أيضا وتبدأ بكتابة الجزء الذي تريد اقتباسه من هذا الكتاب الذي قررت عدم إكماله، و بعد هذا تجلس وتراقب وتكتب وتضحك في محاولة منها لمجاراة الحياة

منتصف الليل، انطفأت أضواء غرفتها منذ ساعتين ولكنها لم تهتم، ففي وسط هذه السعادة الذي تنتابها تجد صعوبة في الخلود للنوم فقط لأن أحدهم أطفأ الأضواء، ورغم أن هذا يزعجها إلا أنها لن تدع هذا الأمر يفسد عليها السعادة القليلة التي تنتابها في هذا الليل المظلم

ينتهي يوم هذه العجوز السبعينية في استغراقها خمس دقائق للوصول لسريرها في هذا الظلام، بل تزداد صعوبة الوصول للسرير عندما يقوم ذهنها بنسج سيناريوهات لتعثرها ووقوعها، إن ذهنها يزعجها أحيانا لأنه لا يكتفي بتخيل الوقعة بل يحرص على تذكيرها بلألام جميع وقعاتها

تصل العجوز للسرير منهكة، وتنهي يوما أخرا تشطبه من حياتها، لا تفكر في الغد لأنها تدرك أنه سيكون كاليوم تماما، لكنها تستعيد ذكريات اليوم المضحكة في حياتها الافتراضية وتنام


هذه العجوز في ممارستها الحياة الافتراضية وجدت حياتها، فهي عكس جميع العجزة حولها في دار الشفاء للعجزة التي وضعها فيه أبناؤها تمارس نوعا من الحياة، بل أنها تعيش شبابها، فهي لا تذكر من شبابها سوى المطبخ والأبناء والمنزل، ولا تذكر أنها ضحكت في شبابها الحقيقي كما تفعل في شبابها المزيف

فالحياة الافتراضية أفضل من اللاحياة

No comments:

Post a Comment